رقد غريب عند الكعبة ، مر عليه رجل من أهل مكة ، فصحبه إلى داره كي يُمضي الليلة ، عنده ، لم يسأله عن سبب مجيئه ، ولم يخبره الغريب عن سبب زيارته لمكة ، فلما أقبل الصبح ، حمل الغريب زاده وقِربَة مائه ، التي جاء بها من بلاده ، ثم أخذ راحلته ، وعاد إلى مكانه عند الكعبة ، لعله يجد من يسأله عما في نفسه ، فقد جاء للسؤال عن النبي الذي ظهر في مكة .

مر النهار ولم يدرك حاجته ، فلما أقبل الليل ، رقد في مكانه عند الكعبة ، فمر عليه الرجل نفسه ، فصحبه معه كي يمضي ليلة ، ولم يسأل أحدهما الآخر عن شيء ، فلما أقبل الصبح ، عاد الرجل إلى مكانه ، عند الكعبة .

تكرر ذلك في الليلة الثالثة ، فلما مر عليه الرجل وصحبه إلى داره ، سأله عن سبب قدومه ، قال الغريب إذا أعطيتني عهدا ، ووعدتني أن ترشدني ، سأخبرك عن سبب قدومي إلى مكة .

كان ذلك الغريب هو أبو ذر ، جاء يسأل عن النبي الذي ظهر في مكة ، وقد سبق أن بعث أخاه للقيام بهذه المهمة ، فذهب أخوه إلى مكة ، وعاد إليه بعد أيام ، ولم يأته بالخبر اليقين ، فكل ما قاله : أنه رآه يدعو الناس إلى مكارم الأخلاق ، وأنه يقول كلاما ما هو بالشعر .

أعطاه عليّ – رضي الله عنه – عهدا ، فقال أبو ذر : جئت أسأل عن رسول الله وأعرف حقيقة أمره ، قال عليّ : إنه حق ، وإنه رسول الله ، وسوف أدلك على مكانه في الصباح ، وطمأنه أن هذا اللقاء سيكون سرا ، وأمره أن يتبعه حتى يدخل دارا ، فيدخل خلفه .

انطلق الإثنان في الصباح ، دخلا على رسول الله ، أسلم أبو ذر – رضي الله عنه – قال له رسول الله : ارجع إلى قومك حتى يأتيك أمري ، ولكن أبا ذر أقسم أن يعلن إسلامه متحديا مشركي مكة ، فخرج حتى وصل عند الكعبة ، وصاح قائلا : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .

غضب المشركون وانهالوا عليه ضربا ، حتى طرحوه أرضا ، لم يستطع مقاومتهم رغم أنه كان قويا شجاعا ، بل كان قبل إسلامه يقطع الطريق بمفرده ، ويهاجم جماعة من الناس بإبلهم .

رآه العباس بن عبدالمطلب وهو ملقى على الأرض يتلقى ضرباتهم ، ألقى بنفسه عليه لإنقاذه ، ثم قال لهم : ألا تعلمون أنه من غِفار ، وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر عليهم ، فأنقذه العباس عم رسول الله ، فنهض أبو ذر والدم يسيل من وجهه وجسده ، أسرع نحو زمزم ، فشرب حتى ارتوى وغسل الدم عن وجهه وجسده .

وفي اليوم التالي ، كرر ما فعله بالأمس ، صاح عند الكعبة قائلا :
أشهد أن لا إله إلا الله ، فضربه الكفار حتى ألقوه أرضا ، ولم يخلصه منهم إلا العباس مرة أخرى .
عاد أبو ذر – رضي الله عنه – إلى قومه ، أخذ يدعوهم إلى الإسلام ، آمن أخوه وآمنت أمه ، كما أمن بعض رجال قومه ، كان يؤمهم في صلاتهم سيد قومهم ، أمام بقية القوم .

فقالوا : سوف نُسلم إذا قدِم رسول الله إلى المدينة ، فلما قدِم رسول الله أسلم بقيتهم .
أقام أبو ذر في بلاده ، حتى مضت غزوات بدر وأحد والخندق ، ثم قدم المدينة ، شهد له النبي قائلا : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر . الغبراء : الأرض .


عاش ابو ذر عابدا زاهدا مجاهدا ، حتى مات بالربذة ، سنة 32 هـ ، صلى عليه بن مسعود رضي الله عنه .