بسم الله الرحمن الرحيم
التسامح
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده … وبعد:
إن التسامح والمسامحة من صفة أهل الخير والصلاح وهدي نبوي حيث أنه أعظم من عفى وسامح ولعل موقعة الفتح لم يشهد التأريخ مثلها .
حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم سامح وعفى عن أهل مكة الذين ناصبوه العداء، وأخرجوه من أحب أرض الله إلى قلبه – مكة – وخاضوا حروباً ضده في بدر وأُحد والخندق، فقتلوا من المسلمين وقُتل منهم، وأسروا من المسلمين و أُسر منهم، وردّوه عام الحديبية وقد جاء إلى مكة حاجّاً معتمراً، وأساؤوا إلى أصحابه فعذبوهم وطردوهم وأخرجوهم، ومع كل ذلك فإنه يوم الفتح، وبعد أن منّ الله على المسلمين بنصر ميمون، وسقط الشرك والباطل في عاصمة الجزيرة العربية، يومها قال لجموع أهل مكة وقد احتشدوا واصطفوا للقائه، ينتظرون ماذا هو فاعل بهم. قال: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فما أعظم هذا الخُلُق، وما أروع هذه الخصال. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران 159.
وإن التسامح من أعظم حسن الخلق وقد رُوِيَ عَن السَّلف تفسيرُ حُسنِ الخُلق ، فعن الحسن قال : حُسنُ الخلق : الكرمُ والبذلة والاحتمالُ .
وعن الشعبي قال : حسن الخلق : البذلة والعطية والبِشرُ الحسن ، وكان الشعبي كذلك .
وعن ابن المبارك قال : هو بسطُ الوجه ، وبذلُ المعروف ، وكفُّ الأذى .
وسئل سلامُ بن أبي مطيع عن حسن الخلق ، فأنشد :
تراهُ إذا ما جئته متهلِّلاً ..... كأنَّك تُعطيه الذي أنت سائِلُه
ولَوْ لَم يَكُنْ في كَفِّه غيرُ رُوحِهِ ... لَجَادَ بِها فَليَتَّق الله سائِلُه
هُو البَحرُ مِنْ أيِّ النَّواحِي أتيتَهُ .... فَلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُه
وقال الإمامُ أحمد : حُسنُ الخلق أنْ لا تَغضَبَ ولا تحْتدَّ ، وعنه أنَّه قال : حُسنُ الخلق أنْ تحتملَ ما يكونُ من الناس .
وقال إسحاق بن راهويه : هو بسطُ الوجهِ ، وأنْ لا تغضب ، ونحو ذلك قال محمد بن نصر .
وقال بعضُ أهل العلم : حُسنُ الخلق : كظمُ الغيظِ لله ، وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر ، والعفوُ عن الزَّالين إلا تأديباً أو إقامة حدٍّ وكفُّ الأذى عن كلّ مسلم أو معاهَدٍ إلا تغييرَ منكر أو أخذاً بمظلمةٍ لمظلومٍ من غير تعدٍّ .
عَنِ النَّواسِ بنِ سَمعانِ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ ، والإثْمُ : ما حَاكَ في نَفْسِكَ ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ )) . رواهُ مسلمٌ.
إن الصفح هو أن تتحرر من إحساسك بالجرح ، وكما قيل : إذا كنت تتوقع من الآخرين إصلاح ما أفسدوه, فإن خيبة الأمل ستلازمك.
أخي العزيز إنك بحاجة إلى أن تصفح عن الآخرين بالقدر التي تستحق أن يصفحوا به عنك.
وقد قيل : المسامحة هي عمليه تتشافى بها روحك النقية وهي عمليه فيها خطوات لتجعلك تتحرر من قيود لازمتك مطولاً وآلام لطالما لازمتك في جميع أوقات.
فلا تنظر للآخرين وأخلاقهم بقدر ما تعاملهم بأخلاقك فإن المضي خلف المسيء ، والنظر في إساءته تجعلك تنتقم لنفسك ، ولكن أعف عن من ظلمك ، وأعط من حرمك ، تنتصر عليهما .
قال صلى الله عليه وسلم: (( يا عقبةُ ، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ ، وتُعطِي مَنْ حَرَمَك ، وتَعْفُو عَمَّن ظَلَمك ))(1).
واخرَّج الطبراني من حديث عليٍّ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ألا أدلُّك على أكرم أخلاقِ أهلِ الدُّنيا والآخرة ؟ أنْ تَصِلَ من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتَعفو عمَّن ظلمك )) (2) .
(1) أخرجه : الحاكم 4/161-162 .
وأخرجه : أحمد 4/148 و158 ، وهو حديث قويٌّ بطرقه .
(2) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 5567 ) من طرق عن علي ، به .
قال تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
وقال : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }.
نسأل الله سلامة الصدر وحسن الخلق ، وإني في هذه المناسبة فإني أعفوا عن من ظلمني ولمزني واتهمني رجاء ذلك من الله ، بعيدا عن حظوظ الدنيا ، فاللهم سامحهم واعف عنهم ولا تحاسبهم بسببي .
ما أحسن التسامح، يعيش الإنسان حياة طبيعية بعيدة عن البغض والأحقاد.
المفضلات