[ملك اختط مدينة في أصح المواضع وأحسنها هواء، وأكثرَها مياهَاً، وشقَّ أنهارَها وغرس أشجارها، وقال لرعيته: تسابقوا إلى أحسن الأماكن فيها، فمن سبق إلى مكان فهو له، ومن تخلف سبقه الناس إلى المدينة، فأخذوا منازلهم، وتبوأوا مساكنهم فيها، وبقى مع أصحاب الحسرات. ونصب لهم ميدان السباق، وجعل على الميدان شجرة كبيرة لها ظلٌّ مديد وتحتها مياه جارية، وفى الشجرة من كل أنواع الفواكه وعليها طيور عجيبة الأصوات، وقال لهم: لا تغتروا بهذه الشجرة وظلها، فعن قليل تُجْتثّ من أصلها، ويذهب ظلها، وينقطع ثمرها، وتموت أطيارها، وأما مدينة الملك؛ فأُكُلها دائم، وظلها مديد، ونعيمها سرمد. وفيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فسمع الناس بها فخرجوا في طلبها على وجوههم، فمروا في طريقهم بتلك الشجرة على أثر تعب ونصب وحرٍّ وظمأ، فنزلوا كلهم تحتها، واستظلوا بظلّها، وذاقوا حلاوة ثمرها، وسمعوا نغمات أطيارها، فقيل لهم: إنما نزلتم تحتها لتحموا أنفسكم، وتضمّروا مراكبكم للسباق، فتهيأوا للركوب وكونوا على أهبة، فإذا صاح النفير استدركتم حلبة السباق.
فقال الأكثرون: كيف ندع هذا الظلّ الظليل، والماء السلسبيل، والفاكهة النضيجة، والدعة والراحة، ونقتحم هذه الحلبة في الحرّ والغبار والتعب والنصب والسفر البعيد والمفاوز المعطشة التي تنقطع فيها الأعناق؟! وكيف نبيع النقد الحاضر بالنسيئة الغائبة إلى الأجل البعيد؟! ونترك ما نراه إلى مالا نراه، وذرّة منقودة في اليد أولى من ذرة موعودة بعد غد، خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به، ونحن بنو اليوم، وهذا عيش حاضر كيف نتركه لعيش غائب في بلد بعيد لا ندرى متى نصل إليه؟!
ونهض من كل ألف واحد وقالوا: والله ما مقامنا هذا في ظل زائل تحت شجرة قد دنى قلعها، وانقطاع ثمرها، وموت أطيارها، ونترك المسابقة إلى الظلّ الظليل الذي لا يزول، والعيش الهنيء الذي لا ينقطع إلا من أعجز العجز، وهل يليق بالمسافر إذا استراح تحت ظل أن يضرب خباءه عليه ويتخذ وطنه خشية التأذي بالحرّ وبالبرد؟! وهل هذا إلا أسفه السفه؟! فالسباق السباق والبدار البدار.
حكم المنية في البرية جارى ... ما هذه الدنيـا بدار قرارِ
اقضوا مآربكم سراعاً إنما ... أعمارُكم سَفَرٌ من الأسفارِ
وتراكضوا خيلَ السباقِ وبادروا ... أن تُستَرَدَّ فإنَّهن عَواري
ودعوا الإقامة تحت ظلٍّ زائلٍ ... أنتم على سَفرٍ بهذي الدّارِ
من يرجُ طِيبَ العَيشِ فيها إنما ... يبنى الرّجاءَ على شَفيرٍ هارِ
والعَيشُ كلُّ العيش بعد فِراقِها ... في دارِ أهلِ السَّبقِ أكرَمِ دارِ
فاقتحموا حلقة السباق، ولم يستوحشوا من قلة الرفاق، وساروا في ظهور العزائم، ولم تأخذهم في سيرهم لومة لائم، والمتخلف في ظل الشجرة نائم.
فوالله ما كان إلا قليل حتى ذوت أغصان تلك الشجرة، وتساقطت أوراقها، وانقطع ثمرها، ويبست فروعها، وانقطع مشربها، فقلعها قيّمها من أصلها، فأصبح أهلها في حر السموم يتقلّبون، وعلى ما فاتهم من العيش في ظلها يتحسّرون، أحرقها قيّمها فصارت هي وما حولها ناراً تلظى، وأحاطت النار بمن تحتها فلم يستطع أحد منهم الخروج منها، فقالوا: أين الركب الذين استظلوا معنا تحت ظلها ثم راحوا وتركوه؟ فقيل لهم: ارفعوا أبصاركم تروا منازلهم، فرأوهم من البعد في قصور مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع اللّذات، فتضاعفت عليهم الحسرات ألا يكونوا معهم، وزاد تضاعفها بأن حيل بينهم وبين ما يشتهون، وقيل هذا جزاء المتخلفين، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
! للإمام بن القيم الجوزيه رحمه الله تعالى
المفضلات