عن أبي سعيد: أن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يُعفه الله، ومن يستغن يُغنه الله، ومن يتصبر يُصبره الله، وما أُعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر»، رواه الخمسة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس»، رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد اشتمل الحديثان على جُمل جامعة نافعة:
الأولى: قولـه صلى الله عليه وسلم : «ومن يستعفف يُعفه الله» ففيها الحث على مجاهدة النفس على انصرافها عن التعلق بالمخلوقين، وذلك بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يُطلب منهم شيئاً لا بلسان الحال ولا بلسان المقال، بل يكون معتمداً على الله وحده.
وفي الجملة الثانية: وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن يستغن يُغنه الله» الحث على الاستغناء بالله والثقة به والاعتماد عليه في الدقيق والجليل.
والثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم : «ومن يتصبر يُصبره الله» ففيها أيضاً الحث على مُجاهدة النفس على الصبر الذي هو حبس النفس على ما تكره تقرباً إلى الله لأنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله حتى يؤديها وعن معصية الله حتى يتركها لله، وإلى الصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخط.
وفي الحديث الآخر، وهو قولهصلى الله عليه وسلم : «ليس الغني عن كثرة العرض …» إلخ بيان أن الغني ليس بسعة الثروة ووفرة المال وكثرة المتاع، ولكن الغنى غنى النفس، فمن
استغنى بما في يده عما في أيدي الناس، ولم تشرف عليه نفسه ولم تتطلع إليه فهو الغني الجدير بلقب الغني، وإن كان في المال مُِقلاًّ، إذ رضاه بما قسم الله، وعفته
وزهده وقناعته جعلته في درجةٍ من الغنى دونها بطبقات أهل الثراء الذين حُرموا الزهادة والقناعة والرضا بما كتب الله لهم، الذين تذهب أنفسهم حسرةً إذا فاتتهم
صفقة أو ضاعت عليهم فرصة، بل ما جاءه رضي به وقنع بخلاف من كثر ماله وتشعبت أملاكه وصار قلبه موزعاً بين ضيعته وعماراته وذهبه وفضته وأوراقه
وسائر أمواله وليس له هم إلا جمع المال فهو معشوقه يحرص عليه أشد الحرص، ويتميز غيظاً إذا فاته منه القليل وبوده لو ضم ما في أيدي الناس إلى ما في يده
فصار لا يتلذذ بمأكل ولا بمشرب ولا يرتاح لمنادمة جليس لاشتغال قلبه به فهذا هو الفقير حقاً المحروم صدقاً وصدق من قال:
وَمَنْ يُنْفِقْ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِه
مَخَافَةَ فَقْرٍٍ فَالَّذِي فَعَلَ الفَقْرُ
اللهم يسر لنا أمر الرزق واعصمنا من الحرص والتعب في طلبه ومن شغل القلب وتعلق الهم به، ومن الذل للخلق بسببه ومن التفكير والتدبير في تحصيله، ومن
الشح والحرص عليه بعد حصوله، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه
أجمعين.
من كتاب المنهال الحسان للشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله
المفضلات