وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين:
أحدهما:
وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها، (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) أي: كثيرًا.
والمراد بذلك سَعَة الرزق
.
كقوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة: 66]
وكقوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) [الأعراف: 96]
وعلى هذا يكون معنى قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)
أي: لنختبرهم، لنبتليهم، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية؟.
يعني بالاستقامة: الطاعة. الإسلام. طريقة الحق.
والقول الثاني:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) الضلالة (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) أي: لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا،
كما قال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44]
وكقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون: 55-56]
وقوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) أي: عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما[9].
المعنى لو آمنوا جميعاً لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق مثلاً؛ لأن الخير كله والرزق بالمطر،
وهذا كقوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ واتقوا) [المائدة: 65] الآية،
وقوله: (وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2 /3]
وقوله: (فقلت استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ) [نوح: 10/12] الآية.
والماء الغدق: هو الكثير في لغة العرب.
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي: لنختبرهم، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم.
وقيل:
المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر، فكانوا كلهم كفاراً، لأوسعنا أرزاقهم مكراً بهم واستدراجاً حتى يفتنوا بها، فنعذبهم في الدنيا والآخرة.
(وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً)
أي: ومن يعرض عن القرآن، أو عن العبادة، أو عن الموعظة، أو عن جميع ذلك يسلكه أي: يدخله عذاباً صعداً أي: شاقاً صعباً[10].
(
وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقاً لنفتنهم فيه، ومن يُعرِض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً)..
يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماء موفوراً نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء.. (لنفتنهم فيه) ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون.
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن جريان الأمور وارتباطاتها.
والحقيقة الأولى:
هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛
وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية.. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة.
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله، ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته
( و من يعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
..
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية:
هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة:
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة) والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأنذر من الصبر على الشدة!
على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان!
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة..
نعمة المال والرزق كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة..
ونعمة القوة كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور،
والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله..
ونعمة الجمال كثيراً ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية..
ونعمة الذكاء كثيراً ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين..
وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله..
والحقيقة الثالثة
أن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله.
والنص يذكر صفة للعذاب (يسلكه عذاباً صعداً).. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السمآء) وجاء في موضع: (سأرهقه صعوداً) وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء! ].
منقول
المفضلات