( الحلقة الثَّانية )
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أمَّا بعد:
اعلم - رحمنِي الله وإيَّاك - أنَّ من أهمِّ وأنفعِ الأسبابِ المعينةِ على زيادةِ الإيمانِ وتقويَتِه: تَعلُّمُ العِلمِ النَّافِع.
و(العلمُ النَّافع) هو علمُ الشَّريعةِ المستمدُّ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
فمن وُفِّقَ لِهَذا العلمِ؛ فقد وُفِّقَ لأعظم الأسباب المعينة على تقوية الإيمان.
والأدَّلة متضافرةٌ على ذلك من الكتاب والسُّنَّة.
فمِمَّا جاء من ذلك في الكتابِ العزيز:
قول الله سبحانه وتعالى:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر: 28].
قال العلاَّمة ابن كثير في تفسير هذه الآية (3/531):"أي: إنَّما يَخشاه حقَّ خشيتِهِ العلماءُ العارفون به؛ لأنَّه كلَّما كانت المعرفةُ للعظيمِ القديرِ العليمِ الموصوفِ بصفاتِ الكمال والمنعوتِ بالأسماء الحسنى كلَّما كانت المعرفة به أتَمّ، والعلمُ به أكمل؛ كانت الخشيةُ له أعظمُ وأكثر".
وقال تعالى:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [الزُّمَر: 9].
وقال عزَّ وجلَّ:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }[المجادلة: 11].
ومِِمَّا جاء في السُّنَّة النَّبويَّة المطهَّرة:
ما رواه أبو الدَّرداء رضي الله عنه قال: سَمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:« مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ, وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ, وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ, وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ, وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا, وَرَّثُوا الْعِلْمَ, فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ » (1).
وعن أبِي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:« وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ » (2).
وعن معاوية بن أبِي سفيان رضي الله عنهما قال: سَمعتُ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ » (3).
وعن أبِي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:« مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ » (4).
قال ابن القيِّم في (مفتاح دار السَّعادة)ص76 في التَّعليق على هذا الحديث:"شَبَّهَ صلَّى الله عليه وسلَّم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لِما يَحصلُ بكلِّ واحدٍ منهما من الحياةِ والمنافع والأغذيةِ والأدويةِ وسائرِ مصالِحِ العباد، فإنَّها بالعلم والمطر".
وهذا الحديث نظير قولِه سبحانه:{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } [الرَّعد ].
قال ابن القيِّم في (مفتاح دار السَّعادة)ص77:"شَبَّه سبحانه العلمَ الذي أنزله على رسولِهِ بالماء الذي أنزله من السَّماء؛ لِمَا يَحصل لكلِّ واحدٍ منهما من الحياةِ ومصالِحِ العبادِ في معاشِهِم ومعادِهِم، ثُمَّ شبَّه القلوبَ بالأوديةِ، فقلبٌ كبيرٌ يسع علمًا كثيرًا كوادٍ عظيمٍ يسعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ يسع علمًا قليلاً كوادٍ صغيرٍ إنَّما يسعُ ماءً قليلاً، فقال:{ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا }
هذا مثلٌ ضربه اللهُ تعالى للعلمِ حين تُخالِطُ القلوبَ بشاشتُه، فإنَّهُ يَستخرجُ منها زبدَ الشُّبهاتِ الباطلة، فيطفو على وجه القلبِ كما يَستخرجُ السَّيلُ من الوادي زبدًا يعلو فوق الماء، وأخبرَ سبحانَهُ أنَّه رابٍ يطفو ويعلو على الماء لا يستقرُّ في أرض الوادي، كذلك الشُّبهاتُ الباطلةُ إذا أخرجها العلمُ رَبَتْ فوق القلوب وطَفَت، فلا تستقرُّ فيه، بل تُجفى وتُرمى، فيستقرُّ في القلبِ ما ينفعُ صاحِبُه".
والأدلَّةُ على فضلِ العلمِ كثيرةٌ فِي كتابِ الله وفِي سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم،
وقد ذكر العلاَّمة ابن القيِّم في كتابه (مفتاح دار السَّعادة) أكثر من مائةٍ وخَمسين وجهًا من وجوه فضل العلم وشرفه.
ويقول الرَّبِيع: سَمعتُ الشافعيَّ رحمه الله يقول: (طَلَبُ العلمِ أفضلُ من الصَّلاةِ النَّافلة) (5).
قال الحافظ ابن رجب في (لطائف المعارف)ص183:"وقد نصَّ الأئمَّة الأربعة على أنَّ طلب العلم أفضلُ من صلاة النَّافلة، ... فإنَّ العلمَ مصباحٌ يُستضاءُ به في ظُلمةِ الجهل والهوى، فمن سارَ في طريقٍ على غير مصباحٍ لَم يأمنْ أنْ يقعَ في بئرٍ بَوارٍ فيعطب، قال ابن سيرين: إنَّ أقوامًا تركوا العلمَ واتَّخذوا مَحاريب فصاموا وصلُّوا بغيرِ علم، واللهِ ما عَمِلَ أحدٌ بغيرِ علمٍ إلاَّ كان ما يُفسدُ أكثر مِمَّا يُصلح".
فعلينا إخوتِي الأحبَّاء أنْ نستكثر من طلب العلمِ النَّافع؛ لنزدادَ يقينًا بوعد الله ووعيده، ونزدادَ معرفةً به سبحانه وبأسمائه الحسنَى وصفاته العلى، ولنعبدَهُ جلَّ وعلا على ما جاء به رسوله الكريم عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم، فيزداد بذلك إيمانُنا، ويقوى يقينُنا.
وعلى أمل اللِّقاء بكم في الحلقة الثَّالثة من هذه السِّلسلة بإذن الله تعالى، والتي تشتمل على بيان السَّبب الثَّانِي لزيادة الإيمان وتقويته.
والله هو الموفِّق، وعليه التُّكلان، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحواشي:
1- أخرجه أبو داود (3641) والتِّرمذيّ (2682) وابن ماجه (223) وصَّححه العلاَّمة الألبانِيّ في (صحيح الجامع)(2/1079) برقم6297).
2- أخرجه مسلم (2699).
3- أخرجه البخاري في مواضع منها برقم71) ومسلم (1037).
4- أخرجه البخاري (79) ومسلم (2282).
5- ذكره الإمام الشَّافعيّ في كتاب (اختلاف مالك والشَّافعيّ) وهو ملحق بِمختصر المزنِي ص426 ومسند الإمام الشَّافعيّ ص423 برقم1218)، وأخرجه من طريق الرَّبيع غيرُ واحد.
منقول
المفضلات