64.jpg


المكتبة الرقمية العمانية كوكب المعرفة
http://www.al-kawkab.net/



في تاريخ التراث العربي اللغوي ظهرت منظومات نحوية كثيرة، توالى تأليف تلك المنظومات منذ نشأة النحو العربي، مصاحبا لتلك الفترة التي عاشها الخليل والتي بدأ فيها علم النحو يأخذ شكلا اشبه بالعلم المتكامل والذي نضج على يد عالم النحو الاكبر سيبويه تلميذ الخليل. ولعل توالي تأليف هذه المنظومات منذ ايام الخليل الى أيامنا هذه أيام الشاعر العماني السمائلي (أبو سرور) (1) لم ينقطع، واستمر هذا التوالي بطيئا مرة وسريعا مرة أخرى، حنا التاريخ على بعضها فظهرت واشتهرت بين الدارسين وأصبحت مضرب المثل، مثل ألفية ابن مالك وألفية ابن معط وألفية السيوطي، وجار التأريخ على بعضها وتخلى عنه فظلت حبيسة بين أحضان المخطوطات القديمة تحنو عليها الاوراق وتستأثر بها وكأن الافلات من بين طيات هذه المخطوطات جريمة للبشرية، وقد تمثل هذا النوع من المنظومات التي لم تأخذ حظها من الظهور في المنظومة النحويةالتي كتبها الخليل بن احمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري والتي تجسدت فيها ميزات عدة منها:
(1) كونها اول منظومة نحوية كتبت. في تاريخ النحو العربي.
(2) نستطيع من خلالها التأريخ لكثير من المصطلحات النحوية التي حملها تاريخ النحو العربي لنا نحن المتأخرين الحريصين على معرفة الكثير عن نشأة النحو والتأريخ له.
(3) معرفة كنه وطبيعة التأليف النحوي في تلك الفترة المتقدمة نسبيا في تاريخ هذا العلم.
(4) تحمل لنا ريادة مدرسة المبصرة وسبقها للمدرسة الكوفية المتأخرة عنها، وتوضح كيف أن المبصرة لها اليد الطول د والنصيب الأوفى في تأصيل هذا العلم وبناء منهج متكامل له.
وهناك ميزات أخرى ستحملها الدراسة الفنية لهذه القصيدة من خلال الدراسة التي أقوم بها لهز» القصيدة، فالموقف هنا ليس موقف الكلام عن ميزات هذه القصيدة، لأننا – فقط -سنقوم بالتعريف بها وتحقيق نسبتها الى الخليل. أما النوع الثالث من المنظومات النحوية فهو الذي كتب وضاع او احترق ولم يعرف إلا عنوانه، فقط وقد امتلأت كتب التراجم والتاريخ بهذا النوع والاشارة اليه دون معرفة أين هو ؟ أو ذلك النوع الذي ما زال في الطريق الى الظهور ومثل هذا ما يفعله الشاعر (أبو سرور) فقد ألف منظومته النحوية (ألفية أبي سرور النحوية ) ولم يقدمها حتى الآن نظرا لانه سيقوم بشرحها اولا ثم يقدمها للقارىء فيما بعد.
اولا: وصف محام لمنظومة الخليل
جاءت منظومة الخليل النحوية في 293 بيتا من النظم الذي اقترب من الشعر في لفته الرقيقة، وصاغها الخليل على وزن عر وهي يسمى "بحر الكامل التام" الصحيح العروض والضرب وتفعيلات هذا الوزن تأتي على الصورة التالية:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلن متفاعلن.
ضمت الكثير من أبواب النحو العربي وتركت القليل منها، جاءت مقدمتها التي وصلت الى 26 بيتا تمهيدا للقارىء وتوطئة نفسية له بدلا من الدخول الى النحو مباشرة. يقول في اولها: الحمد لله الحميد بمنه
أول وأفضل ما ابتدأت واوجب
حمدا يكون مبلغي رضوانه
وبه اصير ال النجاة واقرب
وعلى الغبي محمد من وبه
صلواته وسلام ربي الأطيب
اني نظمت قصيدة حبرتها
فيها كلام مؤنق وتأدب
لذوي المروءة والعقول ولم أكن
الا الى امثالهم أتقرب
عربية لا عيب في أبياتها
مثل القناة أقيم فيها الأكعب
تزهو بها الفصحا عند نشيدها
عجبا ويطوق عندها المتأدب
الى أن وصل الى نهاية المقدمة وبداية الموضوع النحوي الاول قائلا:
فاذا نطقت فلا تكن لحانة
فيظل يسخر من كلامك معرب
النحو رفع في الكلام وبعضه
خفض وبعض في التكلم ينصب
الى ان وصل الخليل الى نهاية القصيدة فقال:
النحو بحر ليس يدرك قعره
وعر السبيل عيونه لا تنضب
فاقصد اذا ما عمت في آذيه
فالقصا ابلغ في الأمور وأذوب
واستغن أنت ببعضه عن بعضه
وصن الذي علمت لا يتشذب
وبين المقدمة والنهاية عالج أمورا نحوية كثيرة بأسلوب يتسم بالسهولة والابتعاد عن التعقيد جاء متسقا مع سهولة عرض القضايا النحوية فكأنه رجل عصري يعيش معنا الآن باسلوبه الذي يصل الى متلقيه سريعا وابتعاده عن الجدل النحوي.
ثائيا: نسخ المخطوطة
من خلال البحث والتنقيب بين صفحات المخطوطات المختلفة وخاصة المجاميع منها. استطعت العثور عل عثر نسخ مخطوطة من قصيدة الخليل بن احمد في النحو، كتبت كلها بخطوط مخالفة، من هذه النسخ ثماني نسخ كانت ضمن مجاميع ضمتها مكتبة دائرة المخطوطات والوثائق التابعة لوزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان. هذه النسخ هي:
(1) نسخة رقم 2988 ورمز لها بالرهن (أ)
(2) نسخة رقم 3122 ورمز لها بالرهن (ب)
(3) نسخة رقم 3072 ورمز لها بالرمز (ب)
(4) نسخة رقم 3371 ورمز لها بالرمز (ج)
(5) نسخة رقم 3245 ورمز لها بالرمز (د)
(6) نسخة رقم 1974 ورمز لها بالرمز (و)
(7) نسخة رقم 2318 ورمز لها بالرمز (ز)
(8) نسخة رقم 3058 ورمز لها بالرمز (ح)
والنسختان الاخريان وجدتا في مكتبتين خاصتين، هاتان النسختان هما:
(9) نسخة رقم 434 (نحو) بمكتبة السيد محمد بن احمد البوسعيدي بالسيب – عمان ورمز لها بالرمز (ط )
(10) نسخة بمكتبة الفاضل سالم بن احمد بن سليمان الحارثي في ولاية القابل بسلطنة عمان ورمز لها بالرمز(ي) وقال الخليل بن احمد:
الحمد لله الحميد بمنه اولى
وافضل ما ابتدأت واوجب
حمدا يكون مبلغي رضوانه
وبه اصير الى النجاة وأقرب
وعلى النبي محمد من ربه
صلواته وسلام ربي الأطيب
اني نظمت قصيدة حبرها
فيها كلام مؤنق وتأدب
لذوي المروءة والعقول ولم أكن
الا الى امثالهم اتقرب
عربية لا عيب في ابياتها
مثل القناة أقيم فيها الأكعب
تزهو بها الفصحا عند نشيدها
عجبا ويطرق عندها المتأدب
وعلامة المتأدبين منيرة لا مثل
من لم يكتنفه مؤدب
يا من يعيب على الفصاحة أهلها
ان التتابع في الفهامة أعيب
ان الفصاحة غير شك فاعلمن
مما يزيدك حظوة ويقرب
والناس اعداء لما لم يعلموا
فتراهم من كل فج يجلب
يتغامزون اذا نطقت لديهم
وتكاد لولا دفع ربك تحصب
يتعجبون من الصواب ركاكة
وخطاهم في لفظهم هو أعجب

الصفحة الأولى من النسخة (أ)

ثالثا. تحقيق نسبة هذه المنظوهة الى الخليل
من المؤكد ان هذه المنظومة النحوية لم تأخذ حقها في الظهور ولم تشتهر عل الساحة النحوية شهرة غيرها من المنظومات النحوية الاخري التي جاءت بعدها في عصور تالية، ولعل ذلك يثير بعض التساؤلات عن اسباب خفاء هذه المنظومة حتى هذا الوقت المتأخر في حقل الدراسات النحوية واللغوية. هل تخوف الدارسون من فكرة نسبتها للخليل ؟ وهو من هو في حقل الدراسات النحوية واللغوية ؟ هل ظلت طول كل هذا الزمن مغمورة لا يعرف من أمرها شي ء ؟ ولم تصل اليها أيدي الدارسين فظلت في خدرها لم يقترب منها أحد أم هل عزف عنها الدارسون لأسباب فنية أخرى؟
لاشك أن البحث والتنقيب داخل المخطوطات المحفوظة في المكتبات الخاصة او العامة، وعدم تمكن عناوين هذه المخطوطات من خداع القارىء المثابر الذي يتوقع أن يجد عنوانا مخالفا للمضمون او مضمونا مخالفا للعنوان، أو يجد مجموعا به عدة مخطوطات وضع له عنوان لمخطوطة واحدة من هذا المجموع، أقول لا شك أن كل هذا يمكن أن يكشف النقاب عن الكثير من المفاجآت سلبا او ايجابا لو كانت محاولات الكشف جادة تتسم بالصبر والدأب.
ولعل تلك المثابرة هي التي كشفت النقاب عن هذه المنظومة المنسوبة الى الخليل. فقد وجدت عشر نسخ مخطوطة لها. كل هذه النسخ ضمن مجاميع مخطوطة، سواء بالمكتبات الخاصة او العامة وربما كان هذا مدخلا مهما للاجابة عن السؤال: لماذا لم تكتشف منظومة الخليل النحوية من قبل ؟
فلقد كانت نسخ هذه المنظومة مطمورة ضمن مجاميع مخطوطة. هذه المجاميع احتو دن في معظمها على نصوص مهمة، بعضها اشعار للامام علي بن أبي طالب والشافعي والبوصيري، وبعضها نحوي لقدامى النحاة وبعضها منظومات نحوية او نصوص لغوية كمثلثات تطرب او اللحمي.«. الخ ومن الواضح الاهتمام بأمر هذه المجاميع من قبل اصحابها، والعناية بنسخها عن طريق نساخ متخصصين، وبل ومراجعتها احيانا على نسخ أصلية أقدم للوصول الى نص صحيح. والملاحظ انني لم اجد نسخة واحدة في مخطوطة مستقلة من نص المنظومة، على الرغم من الاهتمام بأمر الخليل بن احمد وأعماله بشكل لافت للنظر. ويبدو أن ذلك كان سببا قويا في عدم الكشف عنها او الاهتمام بأمرها حتى الآن وربما كان السبب استصغارا لحجمها بالقياس للمنظومات النحوية الاخري التي تصل الى ألف بيت او يزيد، وربما كان السبب الشك في صحة نسبتها الى الخليل بن احمد، اذ كيف تكون هذه المنظومة كتبت في القرن الثاني الهجري ولم تظهر للنور حتى الآن ؟
كل هذا دار في خلدي وانا بين الاقبال مرة والاحجام مرات على تحقيقها الى أن عثرت على نص لخلف الأحمر (2) الذي كان معاصرا للخليل، وكانت وفاته بعد وفاة الخليل بعشر سنوات تقريبا. هذا النص يشير الى تلك المنظومة النحوية للخليل، بل وينقل بيتين من تلك المنظومة مستشهدا بهما على قضية نحوية نواها في نص خلف الاحمر الذي يقول فيه تحت عنوان "باب حروف النسق" يقول خلف الأحمر عن هذه الحروف في كتابه "مقدمة في النحو" (3).
"فنسق بها، فإذا اتيت برفع ثم نسقت بشيء من حروف التنسيق رددت على الأول "أي عطفت على الأول" وكذلك إذا نصبت وخفضت ثم اتيت بحروف النسق رددت على الأول. وحروف النسق خمسة. وتسمى حروف العطف. وقد ذكرها الخليل بن احمد في قصيدته في النحو، وهي قول الشاعر:
فانسق وصل بالوار قولك كله
وبلا وثم وأو، فليست تصعب
الفاء ناسقة كذلك عندنا
وسبيلها رحب المذاهب مشعب
وهذان البيتان يحملان رقمي 157، 158 من منظومة الخليل النحوية، وان كانت كلمة القافية في البيت الاول جاءت على اشكال متنوعة فمرة "تعقب" ويكون القصد منها أن (أو) ليست للتعقيب مثل ثم الواقعة قبلها مباشرة، ومرة جاءت "تعصب" وجاء التركيب "ولست تعصب" اي لست متشددا عند استخدام حروف العطف هذه، ومرة جاءت "ولست تغضب" من الغضب… الخ
وهذه كلها اشكال متغايرة جاءت باختلاف النسخ وكلها جاءت في شكل اختلافات يسيرة لا تمثل خللا في صلب القضية موطن الحديث، وفي نهاية الامر قد تأكد وجود البيتين في منظومة الخليل التي اشار اليها خلف الأحمر، بل وجاءت تحت عنوان "باب النسق" في قصيدة الخليل الذي قال تحت هذا الباب مباشرة:
واذا نسقت اسما على اسم قبله
اعطيته اعراب ما هو معرب
وانسق وقل بالوار….
والفاء ناسقة…..
فتقول حدثنا هشام وغيره
ما قال عوف او حسين الكاتب
واستمر الخليل في التمثيل لحروف العطف رفعا ونصبا وجرا حتى البيت رقم 162 من المنظومة.
لعل تساؤلا ملحا يطرح نفسه بقوة امامنا الآن، هذا التساؤل مفاده هو: كيف نعتمد على اقوال واخبار خلف الاحمر وقد كثر اتهام المؤرخين له بالانتحال والوضع ونقل الأخبار غير الموثوق بصحتها ؟ الا يمكن ان يكون ذكر خلف الاحمر لهذه المنظومة النحوية ونسبتها للخليل على لسانه مثارا للشك في تلك النسبة ؟ حيث يتهم في اخباره واشعاره ونسبتها الى اصحابها.
وللاجابة على هذا انه يمكن ان يكون لهذا السؤال وجاهته ومجاله لو ان الامر كان متعلقا بأبيات او بقصيدة لها غرض آخر، مثل المدح او الذم او ذكر يوم من أيام العرب او ذكر مثالب قبيلة ما او اثبات نسبة ما لبعض الاشخاص او غير ذلك من الاشياء التي يمكن ان تكون مثارا للوضع والانتحال، ان ثبت ذلك عن خلف الاحمر، اما وان الامر متعلق بقصيدة نحوية ليس الفرض منها اجتماعيا او سياسيا او مدحا او ذما، فان امر الشك لا مجال له هنا والسؤال القابل الذي يطرح نفسه في وجه هذا الشك هو لماذا يتخيل احد اسبابا غير حقيقية لخلف الاحمر كانت عاملا على نسبة هذه القصيدة للخليل بن أحمد ؟ واي اسباب هذه تلك التي تجعل خلف الاحمر حريصا على نسبة هذه القصيدة للخليل غير الحقيقة في وجود هذه النسبة ؟
واذا كان هناك من يشك في رواية خلف الاحمر للاشعار فان هناك ايضا من يثبت له الثقة والنزاهة يقول صلاح الدين الصفدي عن خلف (4) "كان راويه ثقة علامة يسلك الاصمعي طريقه ويحذو حذوه حتى قيل ؟ هو معلم الاصمعي، وعر والاصمعي فتقا المعاني واوضحا المذاهب وبينا المعالم" بل ان الزركلي ينقل قول معمر بن المثنى ان خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم اهل البصرة (5) ولاشك ان كل هذه شهادات علمية جيدة في حق خلف واذا كان خلف كان ينتحل الشعر على بعض العرب فربما كان ذلك في بداية حياته وكان يقلد القدماء ليحاكي الفاظهم، يقول الصفدي (6).. "ولم يكن فيه ما يعاب به الا انه كان يعمل القصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء وينحلها أعيان الشعراء" والخليل بن احمد كان معاصرا له فقد توفي خلف عام 180هـ 79م – تقريبا – على حد تعبير الزركلي في الاعلام (7) بالاضافة الى ان ألفاظ القصيدة لا تشابه ألفاظ القدماء فقد عبرت عن الخليل خير تعبير وتساوقت مع اشعاره الاخري في ألفاظها ومعانيها.
اما انتحال خلف للشعر الذي أشار اليه المؤرخون، فربما قد تم لفترة محدودة في مقتبل حياته. اقلع عن ذلك وتنسك وأعلن عن كل شيء انتحله ولنقرأ هذا النص المنقول عن ابي الطيب اللغوي (8) حيث يقول: "كان خلف الاحمر يصنع الشعر وينسبه الى العرب فلا يعرف ثم نسك وكان يختم القرآن كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك العظماء مالا عظيما على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه فأبى ذلك وقال: قد مضى لي فيه ما لا أحتاج أن أزيد عليه. وكان قد قرأ أهل الكوفة عليه أشعارهم فكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، فلما نسك خرج الى أهل الكوفة يعرفهم الاشعار التي أدخلها في أشعار الناس".
ان تنسكه وختمه القرآن كل يوم وليلة ورفضه لعرض بعض الملوك واصراره على اخبار الناس بما انتحله لتوبة صادقة وصارت بعد ذلك حياته أقرب الى الثقة منه الى الانتحال، ولهذا يبقى ما ورد في كتابه "مقدمة في النحو" عن نسبة المنظومة النحوية الى الخليل بن أحمد يقينا لا يرقى اليه شك اذ لو كانت القصيدة ليست للخليل لكان أعلن ذلك للناس أو حذفها من كتابه، لانه كان يشير الى المنحول المسموع فما بالنا بالمكتوب لديه، ولا أظن ان كتابه قد اشتهر وخرج الى الناس في حياته، ولو كان ذلك قد تم لكان قد أعلن انتحال هذه القصيدة أيضا على الخليل، ان الانتحال في رأيي لا يكون في نسبة قصيدة نحوية لصاحبها ولا اظن ان في الامر شيئا آخر غير الحقيقة. في هذه النسبة.

يتبع...


كوكب المعرفة
http://www.al-kawkab.net/