بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومحاربة أهل الردة بدأت الفتوحات فانهالت الأموال على الصحابة لما فتحوا المدائن أخذوا تاج كسرى وهو مرصع بالجواهر، وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ ومصورة فيه جميع ممالك كسرى، ووجدوا دوراً مليئة بأواني الذهب والفضة.
1- ولما قسم سعد الغنائم حصل الفارس على اثنتي عشر ألفاً ، وبعث سعد أربعة أخماس البساط إلى عمر، فلما نظر إليه عمر قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال علي : إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا ثم قسم عمر البساط على المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفاً.
توالت الأموال على الصحابة، غنائم جهاد، وأعطيات، وعمر يعدل ويقسم على المسلمين، فكيف صار حال الصحابة بعد الفتوحات والغنائم ؟ كان خليفتهم ـ عمر ـ في إزاره اثنتا عشرة رقعة، وفي ردائه أربع رقع كل رقعة مختلفة عن الأخرى, كان يأكل زيتاً وكان يأكل خبزاً وملحاً، ويرفض أن يأكل من الطعام الهنيء، ورفض أن يجلس على الفراش الوثير، ونام في المسجد، حتى دخل مرسول من الكفرة فرآه في المسجد قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.
2- روى البخاري رحمه الله عن خباب: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا [يقطفها].
روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ.
فوالله ما تغيرت نفوسهم، ولا تبدلت، ولا بطروا، ولا أشروا، وإنما تواضعوا لله، كانوا يذكرون على الطعام إخوانهم القتلى قبل الفتوحات.
3-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ـ فضالة بن عبيد هذا صحابي جليل، وقد صار أميراً على مكان ـ وَهُوَ بِمِصْرَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ آتِكَ زَائِرًا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ أَنَا وَأَنْتَ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَمَا لِي أَرَاكَ شَعِثًا وَأَنْتَ أَمِيرُ الْأَرْضِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ قَالَ فَمَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكَ حِذَاءً قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا.[رواه أبو داود].
لم تتغير أحوالهم بل بقوا على إيمانهم، إنهم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى لما جاءتهم الدنيا ما تغيروا.
4- عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح في ردائه، وقال: الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان] هذا بعد الفتوحات، وصار أبو هريرة أميراً وقال:الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منـزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] أي: يظنه مصروعاً فيه جني، فيجلس على صدره ليرقيه ويقرأ عليه فيقول أبو هريرة : ليس هناك جنون ولا جن ما هو إلا الجوع ـ قال أبو هريرة: والله إني كنت لأعتمد بكتفي على الأرض من الجوع، وكنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي فيأتي الآتي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع.
ماذا صار حال أبي هريرة بعدما صار أميراً؟ عن ثعلبة بن أبي مالك القرضي قال: أقبل أبو هريرة في السوق صار أميراً على البلد في عصر الفتوحات- يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لـمروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير، أو في رواية يقول: طريق للأمير، طريق للأمير، طريق للأمير، والأمير يحمل حزمة من الحطب على ظهره.
فهل تغيرت أحوالهم بعد الأموال والمناصب؟ ما تغيرت أحوالهم، فكيف حال المسلمين اليوم؟ تأتيه وظيفة أو يصبح موظفاً بعد أن كان طالباً، أو ينجح في شيء من التجارة، انظر إليهم في فسقهم وماذا يفعلون؟ انظر إلى حالهم لتعلم فتنة المال.
5- كان عند أنس خباز يخبز له، وربما صنع له لونين من الطعام، وخبزاً حوارياًـ يعني: نقياً منخولاً- يجيء إليه الضيوف يكرم الضيوف يأتي بالخباز يصنع ويطبخ لهم، هذا في عصر الفتوحات، قال قتادة : [كنا نأتي أنس وخبازه قائم و... يقول: كلوا أنتم كلوا فما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطةـ وهي الذبيحة الصغيرة الطرية التي تشوى- حتى لقي الله عز وجل.
6- وقال عروة: بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة خادمة عائشة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم واحد من المائة ألف من أجل طعام الإفطار، فقالت عائشة : لو ذكرتيني لفعلت, وتصدقت بسبعين ألف درهم وإنها لترقع جاني درعها رضي الله عنها.
7- وزار أبو هريرة قوماً فأتوه برقاق فبكى قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه.
ومن أعظم الأحوال خطبة عتبة بن غزوان ، وهو أمير البصرة قال في خطبته للناس: (وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا) [رواه مسلم].
أعلم القوم بأول حاله وآخره إظهاراً للتواضع وتحدثاً بنعمة الله وتحذيراً من الاغترار بالدنيا.
وبعد فهل يكون في هذا الحال وفي هذا الوصف عظة للمتعظ، وعبرة للمعتبر، ومانعاً لنا من الكبر إن أصابنا شيء من الدنيا، أو نعمة المال أو التجارة، أو المناصب والوظائف؟!
هذا حال الصحابة ربما أتاهم من المال أكثر مما أتانا، لكن ما تغيروا رضي الله عنهم، بل بقوا على حفظ العهد الذي عاهدوا به محمداً صلى الله عليه وسلم.
المفضلات