الدين الإسلامي والتغير الاجتماعي نحو الحضارة - بقلم محمد الكمزاري
محمد بن علي الكمزاري
من موقع شباب التفاهم
https://shababtafahom.om/p/753
تعتبر العلاقة بين الدين والتغير الاجتماعي في مجتمعاتنا غاية في التميز والخصوصية، نظراً إلى الالتصاق الوثيق بين الدين والمجتمع بشكل عام والدين والدولة بشكل خاص. فهناك عوامل اجتماعية كثيرة يعدُّها علماء الاجتماع حقائق مشتركة تعين على فهم أي مجتمع وبخاصة لمعرفة نظمه وتقاليده وطباعه، ومن أبرز هذه الحقائق (الدين) الذي يعتنقه أفراد المجتمع، فمن شأن الدين أن يجعل أفراد المجتمع ينتظمون في مجموعة مترابطة لها الأثر الكبير في الجوانب الإيمانية في حياة الفرد، إضافة إلى دوره في إرساء منظومة القيم الأخلاقية التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها عبر مسار حركة التاريخ. ومن خلال مقالنا هذا سنستعرض فكرة دور الدين في إحداث التغيير الاجتماعي كما فصّله الباحث –أحمد سالم- في مقاله "الدين والتغيير جدلية الفرد والجماعة في التجربة الإسلامية" وكقاعدة ننطلق منها نتطرق إلى تعريف (التغيّر الاجتماعي) الذي هو محور هذا المقال حيث يُعرف بأنه الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر، أو هو كل تحول يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو وظائفه خلال فترة زمنية معينة.
وغالباً ما يكون الدافع وراء التغيّر هو أن الواقع الموجود قد لا يعبر عن إرادة الأفراد المكونين للمجتمع، ومن هنا فإنِّه حيثما وجدت فجوة بين ما هو قائم وما ينبغي أن يكون أو ما يُريده المجتمع أو ما تريده القيادة السياسية، كما قد يحدث في بعض المجتمعات التي تتدخل فيها الحكومات لإحداث تغيير ما في نظام اجتماعي أو ثقافي فإنَّ التغيّر يحدث غالباً. يعتبر الدين أحد أهم عوامل التغيير في المجتمعات، وبنظرة سريعة لعمليّات التغيير في تاريخ المجتمعات البشريّة سنرى أن عامل الدين هو من العوامل الرئيسيّة في تكوين الحضارات، ويمكن القول إنّه لا توجد دعوة دينيّة إلا ولها أتباع يؤمنون بها على النحو الذي يدفعهم للإيمان بصدقيّة هذه الدعوة، "ولاشكّ في أن أثر الدّين الصّحيح هو إصلاح القوم الّذين خوطبوا به، وانتشالهم من حضيض الانحطاط إلى أوج السمو"، ولا يقلّل من أهميّة هذه الدعوة عدم إيمان الآخرين بها، فكلّ قضيّة دينيّة لها من الأتباع كما لها الكثير من المعارضين، وهنا تبرز أهميّة عمليّة التغيير والّتي تتمّ من خلال العمل على تبيان المكاسب الدنيويّة وفي الآخرة عند اعتناق الدّين الجديد .
فمنذ ظهور الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي كان التداخل واضحاً حيث لم يكن الرسول زعيماً دينياً فحسب بل كان كذلك زعيماً سياسياً ومدنياً وقائداً عسكرياً. تعد دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنموذجا متفرداً من حيث استفادتها من عامل الزمن، كما هي متفردة من الجوانب المختلفة الأخرى. فقد استطاعت هذه الدعوة أن تحقق خلال عمرها القصير، الذي لم يتعد عقدين ونيفاً من السنوات، ثورة في التغيير مازالت آثارها باقية حتى يومنا هذا، وسوف تبقى كذلك إلى آخر الزمان. فقد غيرت هذه الدعوة القبائل العربية، التي كانت تعيش على الغزو والسلب والنهب، فجعلت منهم أمة واحدة، يسود بين أفرادها المودة والرحمة والتعاطف والتكامل، بحيث أصبح المجتمع الإسلامي جسداً واحداً، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً . وهكذا نقلت هذه الدعوة العرب من المرحلة القبلية، إلى مرحلة الأمة، في سنوات قليلة لا تعد شيئاً في عمر الزمان، وإن هذه النقلة – لعمري – نقلة متميزة، لم تستطع أية دعوة أخرى في تاريخ البشرية أن تحققها خلال تلك المدة الزمنية القياسية .
وتجدر الإشارة إلى دور القرآن الكريم في فرض نمط التغيير على العرب خاصّةً والمسلمين بصورة عامّة، فالقرآن بحدّ ذاته هو تغيير، إذ فرض على المسلمين قواعد السلوك المتعدّدة في جميع مناحي الحياة، وأصبح هو المرجع الأوّل للمسلمين، فقد علّمهم أسلوب حياةٍ جديدة لم يكونوا يعرفونها قبل الإسلام، وذلك في المجالات الدّينيّة وأهمّها الإيمان بإله واحد هو خالق الكون ومدبّر الوجود، ونظّم القرآن الكريم حياة النّاس من نواحيها المختلفة، فقد فرض على المسلمين نظاماً اقتصاديّاً واحداً، ونظاماً اجتماعيّاً واحداً، وكذلك وضع القوانين الّتي تحدّد العلاقات بين الّناس في السّلم والحرب، وأصبح للمسلمين كتاب كان ومازال هو الحكم بين الناس إذا دبّ بينهم خلاف، ويعدّ هذا من مفاخر العرب بأن أكرمهم اللّه تعالى بالقرآن الكريم الّذي يعد أهم أداةٍ للتغيير من بداية نزوله وحتى يومنا هذا . والبحث في القرآن الكريم عن التغيير الّذي أحدثه في المجتمعات الإسلاميّة يفوق قدرة الإنسان، فالقرآن ليس مجرّد كتابٍ للقراءة بل هو كتاب تدبّر وتحليل ودرس، ومنه خرجت العلوم الشرعيّة والتي ستكون القوانين النّاظمة لحياة الناس منها ستبدأ الحضارة الإسلاميّة بالنشوء والتي تشمل جميع العلوم المعروفة في ذلك الزمان .
إن الفكرة الدينية عامل أساسي في التغيير الاجتماعي نحو الحضارة، ولكن بشرط أن تكون هذه الفكرة نابعة من دين سماوي خالص، لم ينله تشويه ولا تحريف . وما دام الأمر كذلك، فإننا لا نجد من بين الديانات السماوية ديناً مرشحاً اليوم للنهوض بالبشرية سوى الإسلام، لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حافظ – بفضل الله على صفاء عقيدة التوحيد، كيوم نزلت أول مرة من السماء إلى الأرض، والسر في هذا أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتاب الإسلام العظيم، فقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر: 9) . وسوف يبقى الإسلام بهذا الكتاب الكريم، هو المصدر الوحيد القادر –دوماً وأبداً– على النهوض بالبشرية إلى آفاق الحضارة السامية.